سورة الأنعام - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بتأنيث الفعلِ ورفع {فتنتُهم} على أنه اسمٌ له والخبرُ {إِلاَّ أَن قَالُواْ} وقرئ بنصب {فتنتَهم} على أنها الخبرُ والاسمُ إلا أن قالوا، والتأنيث للخبر كما في قولهم: من كانت أمَّك؟ وقرئ بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها، ورفعُها أنسبُ بحسب المعنى، والجملة عطفٌ على ما قُدّر عاملاً في يوم نحشرهم كما أشير إليه فيما سلف، والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء، وفتنتُهم إما كفرُهم مراداً به عاقبتُه أي لم تكن عاقبةُ كفرِهم الذي لزِموه مدةَ أعمارِهم وافتخروا به شيئاً من الأشياء إلا جحودَه والتبرؤَ منه بأن يقولوا: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وإما جوابُهم، عبّر عنه بالفتنة لأنه كذِب، ووصفُه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرّؤ من الإشراك وقرئ {ربَّنا} على النداء، فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة، وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزِلٍ من النفع رأساً من فرط الحَيْرة والدهَش، وحملُه على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ في معتقَدِنا مما لا ينبغي أن يُتوهّم أصلاً، فإنه يُوهِم أن لهم عذراً ما، وأن لهم قدرةً على الاعتذار في الجملة، وذلك مُخِلٌّ بكمال هَوْل اليوم قطعاً، على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} فإنه تعجيبٌ من كذبهم الصريح بإنكار صدورِ الإشراك عنهم في الدنيا، أي انظر كيف كذبوا على أنفسهم في قولهم ذلك، فإنه أمرٌ عجيب في الغاية، وأما حملُه على كِذْبهم في الدنيا فتمحُّلٌ يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عطف على كذَبوا داخلٌ معه في حكم التعجيب، و{ما} مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حُذف عائدُها، والمعنى انظر كيف كذَبوا باليمين الفاجرةِ المغلَّظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم، وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفَوا صدوره عنهم بالكلية، وتبرأوا منه بالمرة. وقيل: {ما} عبارةٌ عن الشركاء، وإيقاعُ الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقعٌ على أحوالها من الإلهية والشِرْكة والشفاعة ونحوِها للمبالغة في أمرها كأنها نفسُ المفترى، وقيل: الجملة كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ في حيز التعجيب.


{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر، ثم بيانِ ما سيصدُر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه، والضميرُ للذين أشركوا، ومحلُ الظرف الرفع على أنه مبتدأ باعتبار مضمونه أو بتقدير الموصوف، كما في قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي وجمعٌ منا إلخ و{من} موصولة أو موصوفة محلُها الرفع على الخبرية، والمعنى وبعضهم أو وبعضٌ منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أن مناطَ الإفادة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين وقد مر في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الخ.
رُوي أنه اجتمع أبو سفيانَ والوليدُ والنضْرُ وعُتبةُ وشيبةُ وأبو جهلٍ وأضرابُهم يستمعون تلاوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحبَ أخبارٍ: ياأبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيتَه ما أدري ما يقول إلا أنه يحرِّك لسانه ويقول أساطيرَ الأولين مثلَ ما حدثتُكم من القرون الماضية، فقال أبو سفيان: إني لأراه حقاً، فقال أبو جهل: كلا فنزلت.
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} من الجَعْل بمعنى الإنشاء و{على} متعلقةٌ به وضمير قلوبهم راجعٌ إلى {مَنْ} وجمعيتُه بالنظر إلى معناها كما أن إفراد ضميرِ يستمعُ بالنظر إلى لفظها وقد رُوعيَ جانب المعنى في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الآية، والأكنة جمع كِنان وهو ما يُستر به الشيءُ، وتنوينُها للتفخيم، والجملة إما مستأنفةٌ للإخبار بما تضمنه من الخَتْم أو حال من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدِّرها قبل الماضي الواقعِ حالاً أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرُها خارجةً عما يتعارفه الناس {أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهةَ أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلولِ عليه بذكر الاستماع، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لما يُنبىء عنه الكلامُ أي منعناهم أن يفقهوه {وَفِي آذَانِهِم وَقْراً} صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه، والكلام فيه كما في قوله تعالى: {على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} وهذا تمثيلٌ مُعرِبٌ عن كمال جهلهم بشؤون النبي عليه الصلاة والسلام وفرطِ نُبُوَّة قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومجِّ أسماعِهم له، وقد مر تحقيقه في أو سورة البقرة وقيل: هو حكاية لما قالوا: {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} الآية، وأنت خبير بأن مرادهم بذلك الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعة من التصديق والإيمان، ككون القرآن سِحراً وشعراً وأساطيرَ الأولين، وقسْ على ما تخيلوه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم حتى يُمكِنَ حملُ النظم الكريم على ذلك {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} من الآيات القرآنية أي يشاهدوها بسماعها {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} على عموم النفي لا على نفي العموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائهم إياها كما هي لما مر من حالهم {حتى إِذَا جَاءوكَ يجادلونك} هي حتى التي تقع بعدها الجمل، والجملة هي قوله تعالى: {إِذَا جَاءوكَ} {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وما بينهما حال من فاعل جاءوا وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير ذماً لهم بما في حيِّز الصلة وإشعاراً بعِلة الحكم، أي بلَغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون: {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ أساطير الاولين} فإنّ عَدَّ أحسنِ الحديث وأصدقِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه من قبيل الأباطيلِ والخرافاتِ رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها، ويجوز أن تكون {حتى} جارّةً و{إذا} ظرفيةً بمعنى وقتِ مجيئهم، ويجادلونك حال كما سبق وقوله تعالى: {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} الخ، تفسيرٌ للمجادلة والأساطيرُ جمع أُسطورة أو أسطارة أو جمع أسطار وهو جمع سَطَر بالتحريك وأصل الكل السَّطْر بمعنى الخط.


{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الضمير المرفوع للمذكورين، والمجرورُ للقرآن أي لا يقتنعون بما ذكر من تكذيبه وعدِّه من قبيل الأساطير، بل ينهَوْن الناسَ عن استماعه لئلا يقِفوا على حقّيته فيؤمنوا به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم عنه، فإن اجتنابَ الناهي عن المنهيِّ عنه من متمّمات النهْي، ولعل ذلك هو السرُّ في تأخير النأْي عن النهْي وقيل: الضميرُ المجرور للنبي عليه الصلاة والسلام وقيل: المرفوعُ لأبي طالب، ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لأتباعه، فإنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينآى عنه فلا يؤمن به، وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً فقال:
والله لن يَصِلوا إليك بجمعِهم *** حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا
فاصدَعْ بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشُرْ بذاك وقَرَّ منه عيونا
ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
وعرضتَ ديناً لا محالةَ إنه *** من خيرِ أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حِذاري سُبّة *** لوجدتني سَمْحاً بذاك مبينا
فنزلت {وَإِن يُهْلِكُونَ} أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بتعريضها لأشد العذاب وأفظعِه عاجلاً وآجلاً وهو عذابُ الضلال والإضلال وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير {يُهلكون} أي يقصُرون الإهلاكَ على أنفسهم والحال أنهم ما يشعرون أي لا بإهلاكهم أنفسَهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يُضِروا بذلك شيئاً من القرآن والرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين. وإنما عبّر عنه بالإهلاك مع أن النفيَ عن غيرهم مطلقُ الضرر إذ غايةُ ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعةُ في تمشّي أحكامِه وظهورِ أمر الدين للإيذان بأن ما يَحيق بهم هو الهلاكُ لا الضررُ المطلقُ، على أن مقصِدهم لم يكن مطلقَ الممانعة فبما ذُكر بل كانوا يبغون الغوائلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. ويجوز أن يكون الإهلاكُ معتبراً بالنسبة إلى الذين يُضِلونهم بالنهي، فقصْرُه على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبنيٌّ على تنزيلِ عذاب الضلالِ عند عذاب الإضلال منزلةَ العدم.
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} شروعٌ في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقضِ لما صدر عنهم في الدنيا من القبائحِ المَحْكيّة مع كونه كِذْباً في نفسه، والخطابُ إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ من أهل المشاهَدة والعِيانِ قصداً إلى بيان كمالِ سوءِ حالهم وبلوغِها من الشناعة والفظاعةِ إلى حيث لا يختصُّ استغرابُها براءٍ دون راءٍ ممن اعتاد مشاهدةَ الأمورِ العجيبة، بل كلُّ من يتأتى منه الرؤيةُ يتعجبُ من هولها وفظاعتِها، وجوابُ {لو} محذوف ثقةً بظهوره وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله، وكذا مفعولُ {ترى} لدِلالة ما في حيِّز الظرْفِ عليه أي لو تراهم حين يوقَفون على النار حتى يعاينوها لرأيتَ ما لا يسعه التعبيرُ، وصيغةُ الماضي للدَلالة على التحقق أو حين يطّلعون عليها اطّلاعاً وهي تحتَهم أو يدخُلونها فيعرِفون مقدارَ عذابها، من قولهم: وقفتُه على كذا إذا فهَّمتُه وعرَّفته.
وقرئ {وقَفوا} على البناء للفاعل من وقَف عليه وقوفاً.
{فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ} أي إلى الدنيا تمنياً للرجوع والخلاص، وهيهاتَ، ولاتَ حينَ مناص {وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا} أي بآياته الناطقةِ بأحوال النار وأهوالها، الآمرةِ باتقائها إذ هي التي تخطُر حينئذ ببالهم، ويتحسرون على ما فرّطوا في حقها أو بجميع آياتِه المنتظمةِ لتلك الآياتِ انتظاماً أولياً {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بها العاملين بمقتضاها حتى لا نرى هذا الموقفَ الهائلَ أو نكونَ من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحُسن المآب، ونصبُ الفعلين على جواب التمني بإضمار أنْ بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعود وابنِ إسحاقَ {فلا نكذبَ} والمعنى إنْ رُدِدْنا لم نكذبْ ونكنْ من المؤمنين. وقيل: ينسَبِكُ من أن المصدرية ومن الفعل بعدها مصدرٌ ويقدّر قبله مصدرٌ متوهِّم فيُعطَف هذا عليه كأنه قيل: ليت لنا رداً وانتفاءَ تكذيبٍ وكوناً من المؤمنين، وقرئ برفعهما على أنه كلامٌ مستأنف كقوله: دعني ولا أعودُ أي وأنا لا أعود تركتَني أو لم تترُكْني، أو عطفٌ على {نرد} أو حال من ضميره فيكون داخلاً في حكم التمني كالوجه الأخير للنصب، وتعلقُ التكذيب الآتي به لما تضمّنه من العِدَة بالإيمان وعدمِ التكذيب كما قال: ليتني رُزقتُ مالاً فأكافئَك على صنيعك فإنه متمنَ في معنى الواعد فلو رزق مالاً ولم يكافىءْ صاحبه يكون مكذِّباً لا محالة، وقرئ برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8